عاش أبو محمد سنوات وهو يطارد رائحة لا يريد الاقتراب من معناها. خرجت لأول مرة مع الفجر، حين ارتفع نداء الصلاة فوق حي التضامن جنوب شرقي دمشق. غطّت الرائحة الشوارع الخالية، واخترقت شرفته كلما حاول استعادة ملامح الحياة القديمة. راقب الرجل حركة الجنود من خلف الستائر، ورصد الحافلات البيضاء الصغيرة تجوب الأزقة. كلما ظهرت، دوّى إطلاق نار لاحقاً في اليوم نفسه، ثم عادت الرائحة ليلاً كأنها توقّع حضورها اليومي. خبر أبو محمد، مثل كثير من السوريين، أن الصمت وحده يضمن النجاة.
بدأت الريبة تشتد داخله مع شتاء 2012. عاش وقتها مع أسرته قرب شارع دعبول، الشريان الشعبي الذي تحوّل إلى ممر عسكري تتناثر عليه الحواجز لقمع أي احتجاج بعد انتفاضة 2011. أحبّ الرجل الجلوس على الشرفة سابقاً ومراقبة صخب السيارات الصفراء والدراجات، لكن المشهد تبدّل؛ صمت ثقيل حلّ محل الضجيج، ورائحة غريبة راحت تزور البيت مع كل يوم. حتى ابنته المراهقة وصفتها بأنها "رائحة شعر يحترق… أو قطعة لحم تُترك فوق النار حتى تذوب."
الفيديو الذي فضح ما تحت الرماد
في أبريل 2022، نشر الجارديان فيديو غيّر كل شيء. ظهر في التسجيل رجلان بزي عسكري يقفان قرب حافلة بيضاء في حي التضامن عام 2013. سحبا مدنيين معصوبي الأعين واحداً تلو الآخر، وجرّاهم نحو حفرة واسعة مليئة بالجثث وإطارات السيارات. وقف أحدهما عند الحافة وفتح النار على الضحايا وهم يهْوون فوق الجثث المتراكمة. وبعد تراكم أكثر من أربعين جثة، سكب الوقود فوق الحفرة وأشعل النار بعصا تحترق من طرفها.
الفيديو كان جزءاً من أرشيف سرّبه مصدر داخل سوريا إلى باحثين متخصصين في الإبادة الجماعية في أمستردام: أنصار شهود وأوغور أونغور. توصّل الباحثان إلى أن التسجيلات توثق قتل 288 مدنياً على يد قوات النظام، بينهم أطفال ونساء.
اعتراف القاتل.. وفخره
تعرفت الباحثة شهود على الرامي الرئيسي: ضابط في الفرع 227 يُدعى عماد يوسف. استخدمت حساباً مزيفاً على فيسبوك وقدّمت نفسها كمؤيدة للنظام، وفازت بثقته عبر مكالمات طويلة. دفعته للحديث عن عملياته، واعترف بما فعل. وعندما واجهته بالتسجيل، أجاب بلا تردد: "أنا فخور بما فعلت."
ظل الرجل يعيش في الحي بلا خوف، حتى بعد انتشار الفيديو. قال أبو محمد إن يوسف ظل يمر في الشوارع كأنه لم يشارك في أي شيء. عاش الرجل قرب آثار الجريمة التي ظل يشمّها لسنوات، والقاتل يمر أمامه بحرية مطلقة.
معركة العدالة بين ذاكرة الناجين وصمت السلطة
رغم انتشار الأدلة، بقي الحديث العلني عن مجازر التضامن خطاً أحمر داخل دمشق. عاش السكان على يقين بأن العدالة داخل سوريا غير ممكنة، وأن أي محاولة لكشف الحقيقة قد تضعهم في خطر فوري. ومع ذلك، خرجت عائلات الضحايا في الخارج لتطالب بتحقيق دولي. بدأت جهات أوروبية بالفعل دراسة الأرشيف المهرّب، وتحركت منظمات حقوقية لربط التسجيلات بشبكة أوسع من الجرائم الموثقة ضد المدنيين.
لكن العدالة في السياق السوري تتحرك ببطء شديد. تتصادم الأدلة مع غياب الإرادة السياسية، وتواجه العائلات عالماً دولياً مرهقاً من عقد كامل من الحرب. رغم ذلك، تزداد الأسئلة حضوراً: كيف يُترك ضابط يعترف علناً بالقتل حراً؟ وكيف يعيش الناجون محاطين بذكريات الجثث المشتعلة بينما يغيب القانون؟
يستعيد أبو محمد تلك الرائحة الآن كأنها تعاقب ذاكرته. يعرف أن مصدرها لم يعد مجهولاً. يعرف أيضاً أنّ العدالة، مهما تأخرت، تنحت طريقها في النهاية، ولو عبر جدران صامتة مثل جدران حي التضامن.
https://www.theguardian.com/news/2025/nov/13/survivors-tadamon-massacres-justice-syria

